الفائدة السادسة :
في شرح جلالة هذا الذكر : واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين : المقدمة الأولى : أن العلم على قسمين : تصور و تصديق. أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم البتة لا بحكم وجودي و لا بحكم عدمي ؛ و أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة، ثم إن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه. إذا عرفت هذا فنقول : التصور مقام التوحيد و أما التصديق فإنه مقام التكثير.
المقدمة الثانية : أن التصور على قسمين : تصور يتمكن العقل من التصرف فيه و تصور لا يمكنه التصرف فيه : أما القسم الأول فهو تصور الماهيات المركبة فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب و هذا التصرف عمل و فكر و تصرف من بعض الوجوه و أما القسم الثاني فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملا يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور و أن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق، و ثبت أيضا أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد و البعد عن الكثرة و إذا عرفت هذا فنقول : قولنا في الحق سبحانه و تعالى يا هو هذا تصور محض خال عن التصديق ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب و الكثرة فكان قولنا يا هو نهاية في التوحيد و البعد عن الكثرة و هو أعظم المقامات.
الفائدة السابعة :
أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بالأجزاء الداخلة فيه أو بالأمور الخارجة عنه أما القسم الأول - وهو تعريفه بنفسه - فهو محال ؛ لأن المعرف سابق على المعرف فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به وذلك محال و أما القسم الثاني – و هو تعريفه بالأمور الداخلة فيه - فهذا في حق الحق محال ؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة و ذلك في حق الحق محال و أما القسم الثالث – و هو تعريفه بالأمور الخارجة عنه - فهذا أيضا باطل محال ؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئا من أحوال القديم الواجب لذاته ؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة و بهويته المعينة لكل ما سواه و لما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى و حقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة و ماهيته المعينة فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة و هو أن يوجه الإنسان حدقة عقله و روحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل و الروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.
الفائدة الثامنة :
أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب و السلطان القاهر و وقف بعقله على كمال تلك المهابة و على جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة و تلك السلطة فيصير غافلا عن كل ما سواه حتى إنه ربما كان جائعا فينسى جوعه و ربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة و ربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة و لا يعرفهما وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره فكذلك العبد إذا قال يا هو و تجلى لعقله و روحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة و على روحه الحيرة و على فكره الغفلة فيصير غائبا عن كل ما سوى تلك الهوية معزولا عن الالتفات إلى شيء سواها و حينئذ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله هو و بلسانه هو فإذا قال العبد هو و واظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.
الفائدة التاسعة :
من فوائد هذا الذكر العالي : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من جعل همومه هما واحدا كفاه الله هموم الدنيا والآخرة فكأن العبد يقول : همومي في الدنيا و الآخرة غير متناهية و الحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية و رحمة غير متناهية و حكمة غير متناهية فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات و على تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه و تعالى فأنا أجعل همي مشغولا بذكره فقط و لساني مشغولا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة.
الفائدة العاشرة :
أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولا عن غيره فكأن العبد يقول : كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره فإذا كان هذا لازما فالأولى أن أجعل قلبي و فكري مشغولا بمعرفة أشرف المعلومات و أجعل لساني مشغولا بذكر أشرف المذكورات ؛ فلهذا السبب أواظب على قوله يا هو.
المصدر
" منتديات نورالحق