أسباب وآليات الاضطرابات النفسية
بعد تطور طويل ومجهودات شاقة لا تزال تضطرد في البحث عن أسباب وآليات حدوث الاضطرابات النفسية والعقلية، توصل الباحثون إلى ما يسمى بالرحم السببية متعددة العوامل والأبعاد. وقد تبلورت هذه الرؤية على يدي أدولف ماير بالولايات المتحدة؛ حيث ابتدع مفهوم السايكو- بايولوجي أي المفهوم النفسي– العضوي.
وكان الفضاء النظري والعملي السائد آنذاك هو الفضاء التفسيري للتحليل النفسي، بالإضافة إلى ما نتج عنه من تطورات، مثل مجهودات الفرويديين الجدد والتي تبلورت فيما عرف بالمدارس «السايكودينامية»، وفي «علم نفس الأنا».
ويعتقد بعض مؤرخو الطب النفسي أن التحول عن هذه الفضاءات تم بصورة حادة نوعا ما. المهم في هذا الصدد أن تحولات عديدة قد توجت باتجاه جديد، وتم، بعد ذلك تبني هذا الاتجاه بشكل واسع في دوائر الطب النفسي الرسمي ومؤسساته المختلفة. وانعكس هذا الوضع في النظرية والممارسة، وفي صياغة الأبحاث الأكاديمية، والمناهج الدراسية وبرامج التدريب.
ويذهب هذا الاتجاه إلى تصور عام يستند إلى ثلاث دوائر متقاطعة هي: الدائرة البايولوجية والدائرة النفسية والدائرة الاجتماعية، كنموذج عام لفهم وتصنيف العوامل المتفاعلة في التأدي إلى الاضطرابات النفسية والعصبية. وقد عرف هذا االنموذج بالنموذج العضوي –النفسي– الاجتماعي. ويبدو أن هذا النموذج، لما يمتاز به من سعة، ولكونه ملائماً للتطبيق في الممارسة الإكلينيكية، قد حظي بنوع من الإجماع، كان سبباً وراء استمراريته كجسد مفاهيمي وعملي لصياغة العوامل والأبعاد التي تقف وراء الاضطرابات النفسية والعقلية.
مضى البحث المنهجي الأكاديمي، والممارسة الإكلينيكية في جمع وترتيب التفاصيل، وتصنيفها في عمل علمي دؤوب ومستمر عبر عقود من الدرس والفحص والنظر وإعادة النظر. في هذا السياق، وداخل هذا الأفق الكبير، تطورت نماذج صغيرة تختص بالاضطرابات النفسية والعقلية المختلفة. أو قل، كانت هنالك جهود علمية وعملية تصب في تكييف هذا النموذج الكبير وتنزيله على الاضطرابات المحددة، وبالتالي بناء «نماذج مصغرة» تختص بكل اضطراب نفسي أو عقلي، بغرض توجيه الممارسة الإكلينيكية ودفعها خطوات إلى عتبات جديدة من تجويد المعرفة والأداء.
بيد أنه يهمنا هنا الإشارة إلى أن ابتداع وتبني هذا النموذج ذي الطابع الشمولي الشامل «لاتيولوجيا» الاضطرابات النفسية قد وفر نوعاً من الاستقرار البنيوي والعلمي للطب النفسي ككيان معرفي معقد التركيب ومتعرج المسارات. وقد أضافت إليه هذه الخطوة حلقة منهجية جديدة، وارتفعت به درجة من خلال تقديم ما يشبه القالب المرحلي لتنظيم المعلومات التي يتم الحصول عليها من المرضى ومن ذويهم وأصدقائهم ومعارفهم ومن ملاحظات الباحثين والأطباء والمعالجين النفسيين للمرضى.
ويتجلى في النسق الأخير لهذه العملية نمط محدد الملامح؛ حيث يتم التعرف، داخل الفضاء العام للنموذج العضوي –النفسي- الاجتماعي، على عوامل مهيئة، تظل فاعلة من قبل ظهور المرض، وربما منذ بدايات تكون الجنين، مثل العوامل الوراثية. وبهذا تهيئ الشخص المعني لتأثير العوامل المرسبة، أو المفجرة، والتي تؤرخ لظهور الاضطراب بصورة يمكن ملاحظتها إكلينيكياً. بيد أن العوامل المرسبة لا تؤدي إلى ذلك بالتفاعل المباشر مع العوامل المهيئة، وإنما من خلال وساطة عوامل ذات طبيعة إما بايوكيمائية أو نفسية، وتعرف بالآليات الوسيطة.
ولا تكتمل الحلقة إلا بتقعيد ما يعرف بالعوامل المديمة والمشكلة في جسد النموذج العضوي –النفسي– الاجتماعي؛ حيث تلعب العوامل المديمة، مثل ردود أفعال الآخرين تجاه الإصابة بالاضطراب النفسي، دورها من خلال تغذية تواصل الاضطراب النفسي، واستمراره عبر الزمن، ومن ثم استدامة عوارضه وعلاماته السريرية.
أما العوامل المشكلة فتسهم في تشكيل الصورة الإكلينيكية، وتقف وراء الصور المتنوعة التي تتبدى في ردائها بعض الاضطرابات النفسية داخل السياقات الثقافية المختلفة. وتمثل ظاهرات تقمص الأرواح موقعاً معرفياً ثريا للوقوف على دور الثقافة في تلوين الصورة السريرية لبعض الاضطرابات النفسية مثل الهستيريا، وتكييفها وفقاً للمزاج الثقافي السائد، وفي تساوق مع بنيات الوعي وأنظمة الاعتقاد والرؤية الكونية المألوفة داخل سياق الثقافة المعينة.