الإعجاز العلمي في القرآن
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
فإن الإعجاز العلمي في القرآن يقصد به عدم تعارض شيء من حقائق العلم مع مقررات القرآن الكريم، كما يقصد به مطابقة الحقائق العلمية لما ورد في شأنها من الآيات القرآنية.
ويخطئ كثير من الناس حين يحرصون على أن يتضمن القرآن الكريم كل نظرية علمية، وكلما ظهرت نظرية جديدة التمسوا لها محملاً في آية يتأولونها بما يوافق هذه النظرية، ومنشأ الخطأ في هذا أن العلوم تتجدد نظرياتها مع الزمن تبعًا لسنة التقدم، فلا تزال في نقص دائم يكتنفه الغموض أحيانًا، والخطأ أحيانًا أخرى، وتستمر هكذا حتى تقرب من الصواب، وتصل إلى درجة اليقين، وأي نظرية منها تبدأ بالتخمين وتخضع للتجربة حتى يثبت يقينها، أو يتضح زيفها وخطؤها، ولهذا كانت عرضة للتبديل، وكثير من القواعد العلمية التي ظن الناس أنها أصبحت من المسلمات تتزعزع بعد ثبوت، وتتقوض بعد رسوخ، ثم يستأنف الباحثون تجاربهم فيها مرة أخرى.
والذين يفسرون القرآن الكريم بما يطابق مسائل العلم، ويحرصون على أن يستخرجوا منه كل مسألة تظهر في أفق الحياة العلمية، يسيئون إلى القرآن من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعًا؛ لأن هذه المسائل التي تخضع لسنة التقدم تتبدل، وقد تتقوض من أساسها وتبطل، فإذا فسرنا القرآن بها تعرضنا في تفسيره للنقائض كلما تبدلت القواعد العلمية أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يقين يبطل التخمين.
والقرآن الكريم كتاب عقيدة وهداية، يخاطب الضمير فيحيي فيه عوامل النمو والارتقاء وبواعث الخير والفضيلة.
وإعجازه العلمي ليس في اشتماله على النظريات العلمية التي تتجدد وتتبدل وتكون ثمرة للجهد البشري في البحث والنظر، وإنما في حثه على التفكير، فهو يحث الإنسان على النظر في الكون وتدبره، ولا يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزاذة من العلوم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليس ثمة كتاب من كتب الشرائع السابقة يكفل هذا بمثل ما يكفله القرآن.
يقول العلماء في تفسير قوله تعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج {البقرة:189}، اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري، وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم؟ وهي داخلة في مدلول السؤال...
إن القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك النظريات الجزئية، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي، أو كيميائي أو طبي... كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم، إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله، إن مجال عمله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية، وإننا لنعجب لسذاجة هؤلاء المتحمسين الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها، كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه، إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة، أما ما يصل إليه البحث الإنساني أيًا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة وهي مقيدة بحدود تجارية وظروف هذه التجارة وأدواتها، فمن الخطأ المنهجي- بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته أن تعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية وهي كل ما يصل إليه العلم البشري- هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية، فهي قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب، بظهور أداة كشف أو بتفسيرات جديدة لمجموعة الملاحظات القديمة، وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة لا تليق بجلال القرآن الكريم.
الأول: هو الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ومن يحاولون تثبيت القرآن بالعلم، أو الاستدلال له من العلم، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه، والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
الثاني: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته وهي أنه حقيقة نهائية جاء لهداية البشرية إلى طريق الله المستقيم باتباع رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .
الثالث: هو التأويل المستمر مع التكلف لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر، وكل يوم يوجد فيها جديد.
ومع هذه الحقيقة التي أثبتناها وهي أن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة وما يصل إليه البحث العلمي أيًا كانت الأدوات المتاحة له فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة وأنها قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة، فإن أي مسألة من مسائل العلم، أو قاعدة من قواعده، يثبت رسوخها، ويتبين يقينها، تكون محققة لما حث عليه القرآن من تفكير سليم، ولا تتعارض معه بحال من الأحوال، وقد تقدمت العلوم وكثرت مسائلها ولم يتعارض شيء ثابت منها مع آية من آيات القرآن، وهذا وحده إعجاز.
وكون القرآن كتاب هداية لا يمنع من ورود إشارات علمية سيقت مساق الهداية، هذه الإشارات تعقد من أجلها المؤتمرات في الطب والفلك وغيرهما بين حين وآخر، قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
{فصلت:53}
وقد أمرنا أن نتلو القرآن حق تلاوته وأن نتدبره حق تدبره، فقال سبحانه: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها {محمد: 24}، وقد أمر جل وعلا عباده بإطلاق البصر للتدبر والتأمل في الآيات المبثوثة على صفحات الكون: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
{آل عمران: 190، 191}
وهذا المعنى مذكور في مواضع كثيرة من كتاب الله.
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
ولسنا بصدد استقراء هذه الإشارات القرآنية فإنها أكثر من أن يستوعبها الحصر ولا يزال هذا القرآن يهب كنوزه ويتفجر عطاؤه ولا تنقضي عجائبه.
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن كتاب هداية وإرشاد في المقام الأول، وأن ما ورد فيه من إشارات علمية إنما ورد في مقام الهداية والإرشاد، وأن مقصودها الأول أن تكون دليلاً على عصمة هذا الكتاب وأن الذي جاء به رسول من عند الله.
وقد تعامل الناس مع الإعجاز العلمي بطرائق ثلاث:
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر أن الناس في قضية الإعجاز طرفان ووسط بينهما:
1- فمنهم من غلا في هذا الباب، فأخذ يلهث وراء كل جديد في نظريات العلم يفسر به بعض آيات الكتاب لعله يتكلف إعجازًا أو يعتسف برهانًا مع ما في ذلك من التقرير بصدق هذا الكتاب عندما تتبدل هذه النظريات ويظهر عوار هذه التفسيرات.
2- ومنهم من فرط فأغلق هذا الباب بالكلية فرارًا من المحاذير التي تورط فيها الفريق الأول مع ما في ذلك من تفويت الإفادة من هذا الوجه الحيوي من وجوه الإعجاز.
3- والمتوسطون بين هؤلاء وهؤلاء من أحكموا ضوابط البحث في هذا المجال، ففرقوا بين الحقائق والنظريات، ولم يربطوا كتاب الله بنظريات متغيرة، كما لم يتعسفوا في تفسير الآيات القرآنية لتلتقي مع الحقائق العلمية، بل أقاموا منهجهم في البحث على ثلاث دعائم:
الأولى: الحقيقة الشرعية، وفيها يحرصون على التثبت من أنهم أمام حقيقة شرعية مستيقنة، وسبيلهم إلى ذلك تحقيق هذا الجانب مع الثقات العدول الفحول من علماء الشريعة.
الثانية: الحقيقة الكونية، وفيها يحرصون على التثبت من أنهم أمام حقيقة كونية قد اتفق عليها قادة هذا التخصص على مستوى العالم، وأجمعوا على تجاوزها مرحلة الاحتمالات والنظريات.
الثالثة: وجه الإعجاز، ويشترط فيه ألا يتضمن الربط بين الحقيقتين: الكونية والشرعية نوعًا من التكلف أو التعسف أو الخروج على الظاهر المتبادر بغير برهان ساطع، وإن من بوادر الخير في هذا المقام تأسيس هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بمكة، وهي أول هيئة علمية متخصصة تعني بدراسة هذا الوجه من وجوه الإعجاز.
بطلان القول بالصرفة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: "ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة أو بسلبهم القدرة المعتادة في مثله سلبًا عامًا". انتهى.
وقد زعم النظام وهو أحد رءوس المعتزلة وإليه تنسب فرقة النظَّامية وهو شيخ الجاحظ وكالمرتضي من الشيعة إلى أن إعجاز القرآن كان بالصرفة، أي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارقًا للعادة، أو أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل هذا القرآن، ويؤول هذا القول إلى أن القرآن ليس معجزًا لذاته، وإنما يرجع إعجازه إلى هذا الصارف الإلهي الذي زهدهم في المعارضة أو إلى العارض المفاجئ الذي عطل مواهبم البيانية وقدرتهم البلاغية.
وهذا القول باطل من جملة وجوه:
أولاً: أنه لو صح لكان الإعجاز في الصرفة لا في القرآن ذاته، وهو باطل بالإجماع.
ثانيًا: أنه لو صح لكان تعجيزًا لا إعجازًا، لأنه يكون بمثابة ما لو قطعنا لسان إنسان وكلفناه بالكلام فهو من باب التعجيز وليس من باب العجز.
ثالثًا: قوله تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا {الإسراء: 88}، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سُلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم فإنه يصبح بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بالأمر الكبير الذي يحتفل بذكره.