أحبتي في الله لقد
قرأءة الموضوع فأعجبني كثيراً فنقلتهُ لكم لعلهُ يعجبكم ونستفيد
الجميع]
القرآن الكريم هو
كتاب الله الذي جـاء نـوراً و هداية بمـا يواكب عصـراً تتقدم فيه العلوم و تزدهر.
جـاء ليؤكـد بمـا تكتـشـفه هذه العـلوم أن الكون إنمـا انتظـم بالحق لخـالـقه ومدبر
أمـره. جـاء بالمنطق العلمي الفـريد الذي يعتمد على مـا نراه أو تدركه أبصـارنـا
وعـقولنــا وعلومنا، لكي يــقـرر هذه الحقيقة التي لا تـقبل الـشك " لا إله إلا
الله "..
تعــالـوا نتـدبـر الآيـات من 57 ـ 75 في سورة الواقعة، و تـقدم هذه
الآيــات أروع منهج بحثي يثبت لنـا أنــنـا مخلوقون وأن وجودنـا واسـتمرار
حيـاتنــا يعتمـد على إرادة خـالق واحد أحـد وهب الحياة وأوجد مقومـاتهـا وعنـاصـر
استمرارهـا. ثم أرسـل إلينا هذه الآيــات ليـدلنـا عليه، كمـا ترشدنـا هذه الآيـات
إلى أن حياتنا ورزقنـا وطعامنا وشرابنا وقوتنا من تدبيره ورحمته، كمـا أن حرماننا
من كل هذا في قـدرتـه ورهن مشـيئته، هذا بالبيان المـادي و العلمي الذي تعرضه هذه
الآيـات بمـا لا يدع مجالا لأي شـك.
تبدأ الآيات الكريمة بـتحديد هدف البحث
بقـوله سبحـانه و تعـالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ}: إنه
تعجّب يعتمد على استثارة عقولنـا لنصل إلى هذه الحقيقة بدلاً من أن يضعهـا في شكل
تقريري، و لكن يدعنـا نقرر هذه الحقـائق بأنفسنـا -وهذا مـا تتـبعه المدارس
التربوية الحديثة في شرح الحقـائق-، تعجب ممن لا يصدق أننا مخـلوقون وأن لنـا
خـالقـا هـو منـزل هذا القرآن هداية منه و رحمة، ثم تأتي الآيــات التـالية لتضع من
لا يصدق أمـام الحقـائق المؤكدة لهذا بكل بيان. يعرضهـا القرآن الكريم باستفسارات
عقلاني ، تثير الفكـر مرة أخرى بمـا نراه بعيونـنـا ومـا ندركه بـأبصـارنــا لتصبح
أدلة قـائمـة على إثبـات هذا القول.
يأتي هذا بأعظم سـرد علمي يعرض الحقائق بحسب
ترتيبهـا المنطقي وبحسب أهميتهـا، ويعتمد على رؤى تزداد وضوحـاً يومـا بعد يوم. و
لهذا تـبدأ كل آيـة وكل برهـان أو استفـسـار بكلمة "أفــرأيتم"، استفـسـار من
الخـالق يهدينا إلى صدق القول {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ}.
و يـأتي أول استفـسـار
بـقول الحق {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ.أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ
الْخَالِقُونَ} استفـسـار يعقبه ســؤال، اســتـفـسـار عن أعظم دليل على أنـنـا
مخـلوقون عندما تكون لنـا الرؤيـة المتـفحصـة والمتدبـرة إلى أقصى مدى فيمـا نمنيه،
و هذا قد تحـقـق في العصـر الحديث تحت المجـهـر حيث اسـتـطعنا أن نرى تـركيب
الحيوان المــنوي، إنــه خلـية حية أو جزءاً من خلية حية تـؤدي دوراً خياليـاً في
حياتنـا؛ فهي المسؤولة عن حفظ وبقـاء النوع البشري. تقوم بتوريث صفات تنـتـقل من
الآبـاء إلى الأبنــاء، وهي مثل بـاقي خـلايـا الجسم البشري التي تعد آية من آيـات
الإعجـاز، في تركيبهـا وتكـوينهـا ووظائفها وتنفسهـا وغذائهـا وتكاثرهـا وإخراجها،
يعجز الإنسان عن تخيل خلية واحدة بهذا الحجم تقوم بكل هذه الوظائف، فكيف بخلقهـا؟
و هذه الخلية التي يمنيهـا الرجل أو تمنيهـا المرأة لهـا أيضـاً دور متميز عن
أي خلية أخرى؛ فهي تتكاثر وتنقسم بقوانين محددة بعد استكمـال جـزئيهـا أي اتحـاد ما
يمنيه الذكر ( نصف خلية ) مع مـا تمنيه المرأة (نصف الخلية الآخـر ) داخل رحم
المرأة. وعند تدقيق الرؤية -كما تنص الآية الكريمة- في هذه الخلايا التي نمنيها،
وهذا بما يسّر لنا الخالق معرفتـه من وسائل التكبير التي تصل إلى ملايين الحجم
الطبيعي، فسنجد أن نصف الخلية هذه لـهـا نواة تحتوي على عدد من الإنـشـاءات، يصل
عددهـا إلى 23 منشأ تسمى " كروموزومات "، وتحتوي هذه الكروموزمات على جينات تُعَدُّ
سجلاً كاملاً للمواصفات والصفات للسـلالة التي ينتمي إليهـا الإنـسان بدءاً من آدم
وحتى آخر الأجيال.
وكذلك فإن الـبـويضة التي تمنيهـا المرأة أيضاً تحتوي على
خلية لها نفس هذا التكوين، بنواة لهـا نفس العدد من الكروموزمات، وعند التخصيب يتحد
منيّ الرجل مع منيّ المرأة ليكونا خلية كاملة تحتوي نواتها على 46 كروموزم -مثل
باقي خلايا الجسم البشري- وبها خواص وراثية جـاءت من الرجل والمرأة حتى يكون لهذه
النطفة أم ترعـاهـا وأب يوفر لهـا ما تحتاجه، ثم تتكاثر هذه الخلية وتتوالد ويخرج
منها ملايين وبلايين من الخلايا المتماثلة جميعاً في تكوينها وكروموزوماتها
وجيناتها وكل له وظيفته وعمله، وهناك قـوانين ثابتة في هذا الاتحاد بين ما تمنيه
المرأة وما يمنيه الرجل عند تحديد ما يورث من صفات من الأم والأب، فينشأ أفضل الخلق
من هذا التكوين حيث يتم الاختيار بحيث تضمن قوة المولود.
إنهــا برامج علمية
متكاملة تتم في هذا التكوين وفقاً لمعايير وقوانين ما زال العلماء يعكفون على
دراستها. قواعد ثابتة يـسير علـيهـا ويخضع لهـا ما نمنيه في أداء معجز حتى تتكون
الخلية الأولى أو النواة الأولى التي تتفرع منهــا هذه البلايين من الخلايـا في رحم
الأم. قوانين وقواعد سنّها الخالق بحكمته لينشأ منهـا كل إنسـان جديد.
والآن بعد
أن رأينـا هذا الذي نمنيه، هل نستطيع أن نخلق منياً أو نقول أنه قد جـاء بغير خـالق
بحيث يؤدي كل هذه الأدوار ويحتفظ بكل هذه الصفات ويسير على هذه القواعد؟!
إن
الرجل في جماعه في كل مرة يقذف أكثر من بليون خلية حية -أي يمكنه تخصيب عدداً من
البويضات يعادل عدد سكان الصين أو الهند-، أي دقة في خلق هذا المني وفي الإشارة
إليه بهذا القول السديد والكامل والمعجز؟! هل لدينا أي فضل في هذا الخلق وهذه
القوانين التي يعمل بها حتى نـرد بالنفي على هذا السؤال الرباني {أَأَنتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ}. إنـه الاحتكام إلى المنطق العلمي ولا شيء
ســواه.
هل يمكن أن يكون لدينا ردا بغير الإيجـاب؟ كيف لا نقر بهذا والعلم ما
زال يجهل كل أسرار هذه الخلايـا فيمـا عدا رؤية بعض معالمـهـا، ومـا زال كل يوم
يأتي بجديد في هذه الرؤى.
إنـنــا أمـام صرح علمي أرسله الخالق منذ أربعة عشرة
قرنـاً ليدحض مـا ادعـاه مأفـون في القرن الماضي، أن نصف خلية حية بهـا هذا الإعجاز
الذي نراه تحت المجهر قد جاءت بالصدفة، ولجهله - لم يكن قد اكتشف المجهر الذي يجعله
يرى ما نراه الآن كما يـبصرنا الخالق في هذه الآية من إعجاز داخل كل خلية من
خـلايـا مخلوقات الله- فيدعي أنه في البدء كـانت هنـاك خلية واحدة جاءت صدفة، وأن
هذه الخلية قد تطورت من تلقاء نفسها لينـشـأ منهـا سـلالات الحشرات والحيوانات
والطيور والأسماك، فالزرافة جاءت من الحمار والنمر جاء من القط والإنسان جاء في
نهاية هذا التطور من القرد!! أي هراء هذا؟!
أو لو استمع منشئ هذه النظرية إلى
هذه الآية وتدبر في معانيهـا ثم رأى منيّ القط والفأر والإنسان والقرد، لوجد أن لكل
مخلوق من هذه المخلوقات منيّاً خاصاً بـه وسجل معنى بتـكوينهـا استقرت معالمه منذ
البداية. مني به أعداد مختلفة من الكروموزومات التي تحدد الصفات الوراثية والخصائص
المحددة لكل مخلوق بحسب نوعه، كل حيوان أو حشرة أو طير قد جـاء وله تكوينه الخـاص
بالمهمـة التي حددهـا الخـالق له و سخر القوانين الطبيعية التي تحقق له هذه
المهمـة، فهل يستطيع هذا المأفون أن يوضح لنـا كيف يمكن أن يتطور شكل هذه السجلات
بحيث يكون عدد الكروموزومات في منيّ القط أقل من عددهـا في الفأر، رغم أن سلّم
التطور حسب هذه النظرية يأتي بالفأر قبل القط والإنسان بعد القط . هل ينقص العدد مع
التطور أو يزداد، و مـا الذي يمكن أن يغير عدد هذه السجلات وأنواعهـا في كل خلية أو
منيّ؟
كيف تـغير الخلية سجلاتهـا من تلقاء نفسها بحيث تتوافق ما يـنتجه كل منيّ
مع الظروف المحيطة به، حتى يستطيع الطير أن يطـير في الهواء، وتتمكن الأسمـاك من أن
تسبح في البحـار وأن تتنفس في المـاء، ويتوفر للجمـل القدرة كي يعيش في جفـاف
الصحـراء ويخزن المـاء في رحلاته بها، إنهـا جميعـاً جـاءت بإرادة خالق هذا المنيّ
بسجلاّته.. خـالق يعلم ما يصنع وينتج من كل منيّ خلقه بحيث يـؤدى المهمة التي خلق
من أجلهـا.
هل هي الأمطار أو الرمال أو العواصف والحرارة والبرودة هي التي صنعت
وحددت وسجّلت وتـراصت واختـارت وسنّت القوانين التي تحدد كثافة الهواء وكمية الهواء
المذاب في الماء، وحاجة الجمل من الماء أثنـاء رحلته في الصحراء؟ أو جنون صاحب هذه
النظرية، هل يستطيع أن يدّعي هذا لو كان قد استمع إلى هذه الآية واستطـاع أن يأتي
في عصره بمجهـر ليرى إعجاز الخـالق في خلق كل منيّ كمـا نراه الآن؟ الإجـابة
معـروفة والتفسير الوحيد جـاء في أول هذه الآيات بهذا النص الحق الذي أرسله الله
منذ أربعة عـشرة قـرنـا من الزمـان {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ
تُصَدِّقُونَ}.
و في خلقنــا -بهذه القدرة- وضع الله لنـا أقدارنـا أيضـاً التي
تحدد متى تنتهي حيـاة المخلوق الذي جـاء من هذا المني، و كمـا نعجز عن أن نـأتي
بخلية واحدة أو بنصف خلية كالتي نمنيهـا، فنحن نعجـز بالرغم من تـطـور عـلومنــا أن
نمـد أعمـارنـا ولو لحظـة واحدة، فالمـوت هو لحظـة قدّرهـا الله لكل منـا، كمـا
جـاء في هذه الآيـة بهذا النص الإلهي المعجز الدال عليه و على قدرته {نَحْنُ
قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ}، فالذي بيديه الخلق يكون بيديه نهاية مخلوقه ولا
أحد سـواه يعلم منتهـاه، فقلوبنـا تعمل بأمره وعـيونـنـا ترى بأمره، وأمعـاؤنـا
تتحرك بـأمره، و كل شيء يسبح بحمده، ولا أحد يمكن أن يغير قـدره إذا مـا تـوقف أي
شيء بأمره، و لهذا تستكمل الآية بهذا القول الحق {وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ}..{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ.عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ
تَعْلَمُونَ.وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ
تَذَكَّرُونَ}.
إنه المنطق العلمي الإلهي الدال على صدق الرسـالة، فبعلومنـا
اكتشفنـا كيف جـاءت نشـأتنـا الأولى داخل الأرحـام -من هذا الانقسام الهائل للخلية
الأولى في نظـام دقيق فتتكون الأعضـاء والأجهزة والأطراف والعظام والعضلات والحواس
والأعصاب من خلية واحدة تكاثرت بهذا النظام بأمـر خـالقهـا-.
هل يكون من الصعب
على خـالق نـِشأتنـا الأولى بهذه القـدرة و الحكمـة والعلم أن يـنـشـأ مثلهـا مرة
أخـرى أو يبدل في هذه النـشــأة كيف يشــاء؟ هل من العسير على خـالق الأصـل أن
ينـشـأ مثيـلاً أو بديلاً له مرة أخـرى متى شـاء، وهذا مـا جـاء بـه قـول الحق
{عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، ثم
يأتي هذا التعجب المنطقي في نهـاية الآية بعد عرض اٌلإعجـاز في خلقنـا الأول
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ}. إنه تعجب
منطقي لا يحتمل سـوى رد واحد، نعم، سنـتذكر هذه الحقائق دائمـاً يـا الله؛ أنت
حقـاً الإله الخـالق الذي خلقتنـا و القـادر على أن تـبعثنـا كمـا نحن، وأن
تبدّلنـا كيف تـشـاء، فلا قـدرة سـوى قـدرتك ولا إلـه ســواك، ومـا نحن إلا مخلوقون
ولا خـالق إلا أنت، تبعثنـا بأمرك ومشيئتك متى تشـاء.
ثم نأتي إلى الدليل المادي
التالي على أن الله هو الذي خـلـقـنـا، فبعد أن خلقنـا من منىيّ يمنى فصـار نطفة،
أوجد لهذه النطفة -أو الطفل الذي يأتي من هذه النطفة- الغذاء الذي يحـيــا بـه و
يـنـمو، و هذا بما وفـره لنـا من عنـاصـر الأرض ومكونـاتهـا، ولكن هل نستطيع أن
نتنـاول هذه العنـاصـر مباشرة؟ كلا، ولكن خـالق الإنسان خلق مـا يعد له الطعام الذي
يغذيه من هذه العنـاصر كمـا جـاء في قـول الحق {أَفَرَأَيْتُم مَّا
تَحْرُثُونَ.أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} إن الخـالق جعل
هذا النبات يعد للإنـسان والحيوان حـاجتهمـا من الطعـام بطـريقة فـريدة ومرتبة
ومعجزة، ولا حياة للبشر من دون هذا النبات؛
فالبشر رغم عقله و تدبره واعتقـاده
بأنه سيّد هذا الكون، يعجـز أن يعدّ لنفسه طعـامـاّ من الأرض بدون هذا الزرع،
فـالنبات يـأخذ بعض العنـاصـر أو الأمـلاح من الأرض ومعها المـاء الذي يسره الخالق
ويعد للإنسان حـاجته للنمو، ولا فضل للإنسان في كل هذا، و يقتصر دوره على حـرث
الأرض، أي يلقى البذور إلى الأرض وهو يقلبـهـا، وأمـا مـا يـخرج من الزرع الذي
يستخرج من الأرض العنـاصـر المختلفة التي تحدد ثمراته، فهذا يتم بإرادة أسمى وأعلى،
إرادة خـالق أودع في كل بـذرة أسـراراً عليـا وسجلات كـاملة لمـا عليهـا أن
تـــؤديه، حتى يـخـرج كـل نبـات بـلون وطعم ورائحة وشكل ومحتوى يعطي للإنـسان مـا
يحتـاجه لكي ينـمـو ولكي يعيش. إن كـل زرعـة تـعدُّ مصنعـاً كـاملاً يـؤدى دواراً
رائعـة رُسمت بإتـقـان وبـتدبير خـالق الإنسان سبحانه و تعالى، الذي يعلم مـا
يحتـاجه لكي يحـيـا.
إن كل نبتـة تـعد سـراً من أسـرار الخالق، تـرى فيهـا
إعجـازه ومعجـزاته، تـرى لهـا جذوراً تـشق الأرض فيندفع المـاء إليها مذيبـاً بعض
العنـاصر والأملاح التي يحتاجها كل زرع ليُعِ0دّ مـا ينتجه، ويتم دخول هذا المـاء
إلى جذور النـبات بقـانون إلهي يسمى "قـانون الضغط الأسمـوزي". وهذا لاختـلاف نسبة
تـركيز بعض العنـاصر داخل جذور النبات عن نسبتهـا في الأرض فتمتص ما رتبه الخالق
لهـا من أملاح و عناصر .. ثم تـصعد المـياه حـاملة أملاحهـا إلى سـيقـان النبـات
التي تمتـد إلى الهـواء، و تـرتفع المياه في السيقان داخـل أنــابيب ضـيقـة شـقّهـا
الخـالق بحكمته داخل هذه السيقـان. وفي هذه الأنابيب الضيّقة يصعد المـاء في عكس
اتجاه الجاذبية الأرضية بقـانون إلهي آخـر يسمى "قـانون الأنـابيب الشعـرية"، ثم
تـصـل المياه إلى فـروع النبات، الذي يصنع مـا يقدمه لنـا من ثمـار فيهـا كل مـا
نبتغيه من وجبات.
من أودع في هذا الزرع سجـلاّته وشـق له قنواته وسـنّ له
قـوانينه وضبط له تـركيزه وأعـد لـه تـركيبه وإنـشـاءاته، بحيث يمتد بجذوره في
الأرض ويصعد بسيقانه في الهواء ويحمل الفروع والأوراق والثمار؟ من أعدّ لكل نبات
هذا الإعداد بحيث يصبح مصنعـاّ له منتجه القادر على غزو الأسواق بمحتوى متكامل من
الفيتامينات والبروتينات والنشويات والطعم المقبول والرائحة الشهية لكل البشـر،
يغذيهم و ينمّيهم ويقيم أودهم؟
إن هذا السؤال بهذا المنطق الإلهي {أَأَنتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، ليس لــه سـوى إجـابة واحدة: نعم يـا
الله، لا فضل لنـا في هذا الزرع إلا فـضلك، ولا مشيئة إلا مشيئتك، ولا قـدرة إلا
قـدرتك، ولا حول ولا قـوة إلا بــك.
ثم يأتي البرهـان الآخر على أنـه لا مشـيئة
إلا مشـيئتـه، إذا مـا سـلط الله على هذا الزرع مــرض أو فـطـر، أو عاصفة أو حـر
قـائظ، فـلا رادَّ لقضـائه ولا دافع لنقمته.
فيأتي قول القـادر {لَوْ نَشَآءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}. فهل نقدر على إحياء هذا الزرع
لـو مـات أو تحطم -بفعل الحشرات أو الآفات أو الجفـاف أو أمـر الله-؟ كـلا، وسيكون
الندم وتـأتي الحـســرة والاعتراف بالقهـر، ويظـهـر العجـز البشـري أمـام قـدرة
الخـالق بقـول الحق بهذا الإعجاز القرآني: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ.بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ}..
إنهـا قدرة الخـالق على الخلق والفنـاء، على المنح والمنع، على
العطـاء والسلب. تـأتي بهذا الإعجاز وهذا البيـان الذي لا يمكن أن يأتي من أحد
سـواه، في كلمـات محددة أوعت كل المفـاهيم بكل العلوم التي ندركها حتى يومنا
هذا.
ثم يأتي الدليل المادي و المرئي التالي على أننـا مخلوقون بقول الحق
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}..
إنـه عن المـاء، فالمـاء أصـل
الحياة. هكذا يـقـر العلم الحديث؛ فبدون المـاء لن يكون هناك أثـر للحياة على
الأرض، والكواكب من حـولنـا خلت من كـل حـياة لأنهـا تخـلو من المـاء الذي أنعم بـه
الخـالق على أرضنـا. والمـاء سـر من أسـرار الخـالق، تتوقف عليه حياة النبات
والإنسان والحيوان؛ إذا امتنع جفّ النبات ونفق الإنسان والحيوان. من سـاوى بين كل
المخلوقات فجعل المـاء عمـاد حيـاتهم، يشربه الإنسان فيرتوي، والحيوان فينـشـط،
ونروي به النبات فينمو ويعطى الثمـار؟ إنه الواحد الأحد، هو الخـالق الذي وفـر هذا
المـاء الذي نـشـربه، فـطـوّع الأرض بجـوِّهـا والسمـاء بـشمسهـا وهـوائهـا
وضغطهـا، والبحـار بمـلوحتهـا حتى تكون لنا في النهاية هذه النعمة التي لا نحيا
بدونهـا.
فالبحـار تحتفظ بمخـزون رهيب من المـاء الأجاج أو المـالح في درجة
حرارة مناسبة، وقد أودع الخـالق في مياه البحـار الراكدة كمّـاً كبيراً من الأملاح
القـادرة على منع نمو أي بكتيريـا أو طفيل يفسد هذه المياه. و يسلّط الله على هذه
البحـار -التي تغطي أربعة أخمـاس مسـاحة سطح الكرة الأرضية- قدراً منـاسبـاً من
أشعة الشمس، فيتحول جـزء من ميـاهـهـا إلى بخـار المـاء العذب الذي يتصـاعد إلى
طبقـات الجو العلـيـا؛ لأن كـثافته أقل من كـثافة الهـواء المـلامس لسطح الأرض.
وكلمـا ارتفعنـا إلى أعلى كلمـا قلّت كـثافة الهواء. ويقف البخـار عند الارتفاع
الذي تتـزن فيه كثافته مع كثافة الهـواء، فتتجمع جزيئات البخـار مكونه هذا الحجم
الهـائل من السحب التي تتحرك بفعل الريـاح في اتـزان متكامل، ويحدث هذا عندمـا
تتـســاوى قوى الجذب الأرضي مع الدفع الهوائي للسحاب إلى أعلى لاختلاف كثافتيهمـا.
لهذا جـاء هذا الاسم القرآني المعجـز للسحـاب و هو "الـمزن"..
إنه اسم يـعبر
عمـا تمثله حـالة السحب الدائمة من الاتـزان الكامل، ويستوعب كل هذه المعاني بإعجاز
علمي و بلاغي. وعند مقـابلة هذه السحب لـظـروف جوية وطـبيعية مغـايرة -يهيئها
الخـالق في أمــاكن محددة يختـارهـا برحمته-، ينـشـأ عن هذا التغـير فقدٌ لهذا
الاتزان، فتنتقـل هذه السحب من الحالة الاتزان إلى حالة 'لا اتـزان'، فتتحول إلى
أمـطـار، وفي هذا يأتي القول الإلهي هذا النص القرآني الكامل {أَأَنتُمْ
أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}..
إنه استفسار عمن
يكون قد هيـأ لهذا السحـاب مصـادره واتزانه في السمـاء، ثم نـقله من الاتزان إلى لا
اتزان عندمـا تـنزل أمطـاراً عند مصبات الأنهار، أو لأقوام أراد الله لهم هذا
الرزق. إنه إعجاز علمي وبلاغي آخر في اختيـار هاتين الكلمتين المتتاليتين: من المزن
فيمـا تمثلانه من انتقـال السحـاب وخروجه من حـالة الاتزان عند نزول الأمطار، ثم
اختيار الكلمتين 'المزن' 'المنزلون'، ومـا احتوت عليه من تشـابه حروفهمـا وتتابع
مهامهمـا..
ولا نجد أيضـاً رداً على السؤال الذي جـاء في هذه الآية إلا أن
نقـول: أنه لا فضل لنـا أيهـا الخالق العظيم في أية مرحلة من مراحل هذا المزن ســوى
فضلك، فبرحمتك سلّطت أشعة الشمس بقدر معلوم على المـاء الأجـاج في البحـار فجـاء
السحـاب، وبفضلك حملتْه الريـاح في اتزان، و بفضلك أفقدته عند كل مصب اتزانه،
وبفضلك أنزلته إلينـا أمطـاراً من مـاء عذب تجري في الأنهار، فتظل عذبة سـائغة
للشـاربين من خلقك، الذين خلـقتهم برحمتك و تعلم مـا يقيم حيـاتهم.
ثم يأتي
برهـان آخـر، فالقـادر على منح هذا المـاء العذب لنـا قـادر أيضـاً على منعه. إنهـا
مشيئته ولا دخل لأحـد بهـا. ولكن، مـاذا يحدث إذا منع عنـا هذا المـاء العذب؟ لن
نجد سـوى مـاء البحـار الأجـاج.. هل نستطيع أن نحيـا به؟ الرد معروف! فهـل لنـا إلا
أن نـشـكر الله على هذا الفضل الذي تفضل به علينـا لنشرب ماءً عذباً ساقه إلينا حتى
نرتوي ونروي النبات، فنطعم به وتشرب الدواب، فتخدمنـا ونأكل لحومهـا، وفي هذا يأتي
هذا النص القرآني المعبر عن قدرة الخالق ومشيئته في العطـاء والمنع: {لَوْ نَشَآءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ}. من يتدبر كلمتي 'جعلنـاه' في هذه
الآية وفي الآية السـابقة، لوجد الحرف ( ل ) قد سبق هذه الكلمة في الآية السـابقة،
ولم يأتي في هذه الآية؛ ففي الآية السـابقة إشـارة إلى أنه إذا أراد الله أن يصيب
الزرع، سلّط عليه مـا يبيده، فجـاء الحرف ( ل) ليؤكد مشيئته في هذا الحرمان، وهو
المعطي. أمـا في هذه الآية، فلا حـاجة للتـأكيد حيث أن مشيئته تحوّل المـاء الأجـاج
إلى مـاء عذب بفعل الشمس والسحاب المسخّـرين، فإذا أوقف الله هذه الأسباب، فلن نجد
أمـامنـا سوى مـاء البحـار نشرب منه دون أن يروى ظمأنــا. فلا حـاجة إذن في تـأكيد
هذا لأن المـاء الأجـاج أمـامنـا دومـاً، وعند حرماننا من الماء العذب فلا مفر لنـا
من الذهـاب إليه.
هل في قدرة بـشـر أن يأتي بكل هذه الحكم والبلاغة والعلم في كل
كلمة بل وفي كل حرف؟ ومـا زلنـا نعترف بـقصـورنـا عن أن نعي كل مـا جـاءت به هذه
الآيــات.
ثم تتوالى الأدلة على أننـا مخلوقون، فقد خـلق الله الإنـسان على
الأرض ليتحرك ويسعى. وسعيه وحركته في حـاجة إلى طـاقة -مثل محرك السيـارة الذي لن
يتمكن من الحركة دون مصدر للطـاقة وهـو الوقود الذي يحترق داخل السيارة لتـسـيـر،
وبـدون أن يكتشف البترول مـا كـان لأحد أن يخترع السيـارة-. كيف تم إعـداد مصـدر
للطـاقة لهذا الإنسـان الذي جاء إلى الأرض؟ مصدر يتنـاسب مع تكوينه وخلقه وأجهـزته
المختلفـة؟ لم يكن هنـاك بترول على الأرض حين جـاء إليها أو كحـول أو شمع!
إن
التفسير الوحيد هو أن الخـالق الذي خلق الإنسـان لابد أنه دبّـر له مصدراً يستمد
منه طـاقته؛ لقد سـخـر له الشمس لتحترق وتـرسـل أشعّتهـا إلى النبـات ليختزنهـا، ثم
ليحـولهـا إلى طـاقة تنطلق في أجسـامنـا، باحتراق توارى عن أعيننـا، وبالقدر الذي
نحتـاجه للحركة، وبـآلـيّات تعجـز العقول عن فهمهـا. ولولا الشمس ولولا النبات،
ولولا حكمة الخـالق مـا كـان للإنـسان من سبيل إلى الحركة والسعي والاستمتـاع بقـوة
عضـلاته في الجهـاد والسيطرة على الكون من حـولـه.
أي لـولا الشجـرة التي تختزن
طـاقة الشمس -بعمليـة تـعد من أعقد العمـليـات تسمى عملية التمثيل الكلوروفيلي،
وفيهـا يقوم ورق الشجــر الأخـضـر بتكوين المـواد النـشوية أو الكربـوهيدراتية التي
تمثل وقوداً هيدروكربونيـاً مثل البترول-، وهذا بأن يمتص الورق الأخضـر أشعة الشمس
وثاني أكسيد الكربون من الجـو والمـاء من جذور النبـات، وحين نـأكل ثمـار هذه
الأشجـار، تحـترق المـواد النشـوية التي كوّنها النبات أثناء اختزانه لطـاقة الشمس
داخل خـلايـا أجسـامنـا البشـرية، فتنطلق هذه الطـاقة في احتراق متواري -يستخدم فيه
الأكسيجين الذي يحمله الدم من الرئة إلى الخـلايـا-، وتعد عمليـة احتراق المواد
الكربوهيدراتية داخل الخلايا من أعقد العمليـات التي يحـار العقـل البشرى في
فهمهـا، والتي تحتـاج إلى مجلّدات لسـرد تفـاعلاتهـا. ولكنه احتراق كأي احتراق
يستخدم فيه الأكسيجين من الهواء، وينتج عنه الطـاقة وثاني أكسيد الكربون وبخـار
المـاء.
وبهذه الطـاقة تتمكن خـلايـا الجسم من أداء وظـائفهـا، ويتمكن الإنسان
من الحركـة والاستمتاع بحياته. هل للإنـسان فضل في هذه الشجرة التي صنعت للإنـسان
حـاجته من الطـاقة ليحـيـا؟ وهل يعي الإنسان مـا بداخله من نيران تتوارى عن العيون
كتلك التي تنطلق داخل محرك السيارة؟ كل هذا جـاء في هذا الاستفسار الإلهي
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ.أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ
نَحْنُ الْمُنشِئُونَ.نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ}
هل لنـا رد أيضـاً على هذا الاستفـسـار ثم هذا السؤال إلا أن نقول أن لا يمكن أن
يـكون هنـاك فضـل لنـا في شيء من هذا سـوى أنه تدبيرك أيهـا الخـالق، وأن هذا خلقك
وصنـاعتك وتـرتـيـبك؟ وإذا نظرنـا إلى كل كلمـة سنجد فيهـا إشـارات إلى أشياء ندرك
البعض منهـا بعلومنـا المحدودة، ويـغيب عنـا الكثير. ننظـر إلى كلمتي 'أفرأيتـم' و
'تــورون'، والأولى تدعونـا إلى أن رؤية حكمة الخالق والثانية تدلّنا أن هذه الحكمة
قد توارت عن العيون. وكلمة 'تـذكرة' قـد تـرمز إلى وجـوب تذكّر عظمة الخـالق في
خلقه، وفيمـا دبـره ومـا يجـريه داخل أجســامنـا، حتى تكون لنـا هذه القدرات.
وكلمتي 'متـاعـاً للمقوين' إشـارة إلى أنـنـا بهذه الطـاقة يمكننـا أن نتمتع بقـوة
عضـلاتنـا وأجسـامنـا. إن هذه الكلمـات المحددة قد أوعت كل مـا اكتـشـفنـاه،
وستستـوعب أيضـاً مـا لم نكـتـشفه من عـلوم الطـاقة والاحتراق والنبات والطب
والإنسان، والبيـان والبلاغة والإعجاز وكـل شيء..
هل يمكن أن يتـأتى كل هذا
البيان من غـير الخـالق الذي يعلم كل شيء؟؟
تعـالوا نـنـظـر نظرة شـاملة إلى هذا
المنهج الرباني في إثـبات أنـنـا مخـلوقـون، لقد بدأت بالدعوة إلى رؤيـة هذا
الحيوان المنوي الذي تـأتي منه بداية التكوين، فلا قدرة الآن لأحـد أن يدّعي أنه
جـاء بغير خـالق أو لنـا فضل في خلقه، ثم جـاءت الدعوة إلى رؤيـة مـا يتـغذى عليه
هذا المنيّ لكي ينمو ويصير عضلات وعظـام وأجهزة وبشـر، ولا قدرة لأحـد أيضـاً على
ادعـاء أن هذا الزرع قد جـاء بغير خـالق بحيث يوفـر مـا يتوافق مع تكوين وتصميم هذا
اٌلإنسان، أو أن الذي خلق الإنسان هو الذي خلق هذا الزرع لينمـو بـه وليعتمد عليه
بحيث لا تستمر الحياة إلا بـه. ثم نأتي إلى الآيـة التـالية وفيهـا الدعوة إلى رؤية
المـاء الذي يسقى النبـات والإنسان، وفيه سـر الحياة واستمرارهـا؛ لا قدرة لأحد
أيضـاً على ادعـاء أنه جـاء بغير خـالق أو أن الذي خلق الإنسان والنبـات هو أيضـاً
الذي دبّر لهمـا هذا المـاء، بدورته المعقّدة من مخـازن تحفظه إلى أنهـار يسـوقهـا
الخالق إليه في أماكنه، بحيث يكون بهذه الوفرة وهذا التكوين. ثم نأتي إلى دعوة
الخـالق إلى رؤية الطـاقة التي يحتـاجهـا الإنـسـان، ولا قدرة لأحـد أيضـاً على
ادعـاء أنهـا دبـرت هكذا بدون خـالق، أو أن الذي دبّـرهـا ليس هـو الذي خلق الإنسان
ودبّر له هذا العطـاء وهذا المَعين الذي لا ينضب.
إذاً نحن مخلوقون ومدبر لنـا
كل شيء بيد خـالق رتّب بدايتنـا وغذائنـا ومـاءنـا ومـصدر طـاقتنـا. وأن ليس لنـا
من أمـرنـا أي شيء سـوى حـرث الأرض ببذورهـا، وانتظـار المـاء والنمـاء والنبـات
والطاقة، وكلهـا من أمـور وشؤون الخـالق وحـده في منحها ومنعها كما تبينه هذه
الآيات.
هل هنـاك منطق يـحتكم إليه العقل البشري أعلى من هذا المنطق حتى نقـرّ
بخـالقنـا أو أن لنـا خـالق؟ وهل لنـا بعد هذا المنطق وهذه الرسـالة إلا أن نـقـرّ
ونسبّح بعظمـته؟
وهكذا تنتهي هذه الآيـات، أو الإثبـاتـات والدلالات، أو
الاستفسارات الأربع بوجوب هذا التسليم لرب العـالمين {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ}.
إنـه منهج ربّاني لا يتطـاول إليـه أحـــد، جـاء في خـاتم
الرسـالات، ولن تـراه في زبور أو تـوراة أو إنجيل أو أي كتـاب.
ويلي هذه
الآيــات قـسم من الخـالق بمـا نـراه في خلقـه أيضـاً على صـدق هذه الرسـالة، و أن
هذا الكتـاب قـد جـاء من عنده بقول الحق: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ.فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ.لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ.تَنزِيلٌ
مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}. و نقف عنـد قـسم الخـالق بمواقع النـجوم، فالنجوم
أجـسام غـازيّة تـجـري بهـا تفـاعلات شتى منذ نـشأتهـا، من إشعـاع يتحول إلى مـادة
أو مـادة تتحـول إلى طـاقة وإشعـاع بحسب مـراحل عمـرهـا وتكوينهـا. وتقف العلوم
الطبيعية عـاجزة عن معرفة وتفسير نـشأة هذه النجوم، إلا أنه من المفترض أن يكون
لهذه النجوم عند نضجهـا نفس تكوين الشمس من غـاز الهيدروجين.
وفي مـرحلة نـشاط
النجم تنطلق منه طـاقة هـائلة حيث يحدث اندمـاج ذرات الهيدروجين ويتـحول جـزء من
كتلـة هذه الذرات إلى طـاقة وينتج غـاز الهليوم الخـامل. وتـأخذ كتلة النجم في
التنـاقص حتى يتلاشى وينتهي النجم بعد عمـر محدود. وفي الكون الآن بـلايين من هذه
النجوم التي قد يصل حجم بعضهـا إلى مـلايين المـرات مثل حجم نجم الشمس -وهو نجم
مجمـوعتنـا التي ندور حولهـا وتعطينـا دفئهـا-. ونحن نعتمد في رؤيـتـنــا ليـلاً
لهـذه النـجوم على الطـاقة الصـادرة منهـا والتي تـصـل إلينا على هـيئة ضـوء يخترق
السمـاء بـسرعته.. كمـا نـرى الشمس نهـاراً بالضـوء الصـادر منهـا -والذي يستغرق
وصـوله إلينا من الشمس عـشـر دقـائق-. ولأن النجـوم من حـولنـا أبعد كثيـراً من
الشمس، فنرى أن ضـوءهـا يستغرق زمنـاً أكثر من هذا، ونجد أقـرب نجم إلينا يستغرق
وصـول ضـوءه إلينـا عدة سـنوات، وهنـاك نجـوم يستغرق وصـول ضـوءهـا إلينـا ملايين
من السنوات، بل وآلاف المـلايين من السنوات، هذا لأنهـا على أبعـاد شـاسعة وأن
الضـوء سـرعته محـدودة وتـقدر بحوالي 300 ألف كيلومتر في الثـانية
الواحدة.
والآن مـا معنى أن الضـوء الصـادر من نجم مـا يستغرق وصوله إلينا سنة؟
معنى هذا أن هذا النجم يبعد عنـا مسـافة تسـاوي هذه السـرعة مضروبة في عدد الثواني
في السنة أي: 300 ألف كيلومتر × 365 × 24 × 60 × 60. ويطلق العلمـاء على هذه
المـسافة تعبير (سـنة ضـوئية). فمعنى أن يـبعد النجم عنـا مليون سنة ضـوئية، هـو أن
هذا النجم كان في هذا الموقع منذ مليون عام عندما أرسل إلينا ضـوءه، واستغرق الضوء
هذه الفترة ليصل إلى عيونـنـا.
أمـا عن مـوقع النجم في اللحظة التي وصل ضـوءه
إلينـا فـلن تصـل إليه، وعلومنـا وقدراتنـا. وهناك نجوم يستغرق وصول ضوءهـا بلايين
السنين، فـلا قِبَلَ لنـا أن نعرف مواقع هذه النجوم بالنسبة لبعضهـا، لأن رؤيتنـا
لهـا تعتمد على مـا وصلنـا الآن، كل بحسب بعده وتـوقيت إرسـال ضـوئه إلينا، وإن
تـزامن وصـول ضـيـائهـا جميـعـاً إلينـا في اللحظة الراهنة.
ومن الممكن أن تكون
معظم هذه النجوم قد تلاشت أو تبدلت أو بعدت أو اقتربت، ولكن قدرتنـا محدودة
لاعتمادنا على مـا تراه أبصـارنـا على ضـوء يسير بسرعة محـددة. ولهذا فإن معرفة
مـواقع نجـوم في أي لحظة -وهي على هذه المـسـافـات الشـاسعة والمختلفة- شيء بعيد عن
قدرة البـشـر، ولهذا جـاء الحرف 'لـو' للدلالة على قـصور قدرة البشر عـن العلم
بمواقع النجوم، وهذا في قـوله سبحـانه {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ
عَظِيمٌ}. فالحرف 'لـو' هـو حرف يفيد التمني فقط، وقد جـاء بعلم خـالق الإنسان الذي
يعرف خـلقه. فهي تمثل بالنسبة للإنسان الغيب والحـاضر في آن واحد.
ولكن الله يرى
خلقه ولهذا يقسم بمـا يعلمه وهو أعلم بعظمته، فهو عـالِم الغيب والشهـادة العزيز
الرحيم.
إن التدبـر في هذا القسم وبحدود مـا وصلت إليه عـلومنـا في التعرّف إلى
بعض الأسـرار في هذا الكون، نجد في مواقع النجوم على تلك الأبعـاد الشـاسعة التي لا
يمكن أن يعيهـا أو يستوعبهـا عقل البـشـر إعجـاز وإعجـاز. وكيف يستوعب العقل بلايين
السنوات الضـوئية زمنـاً وأبعـاداً؟ إن أعمـارنـا، بل وعمـر الأرض التي نحيـا
عليهـا، ثم أبعادنا، بل وأبعـاد الأرض التي نحيـا عليهـا، ونتصـارع من أجل بضعـة
أمتـار عليهـا، لا تمثل إلا أتفـه الكسـور التي لا تذكر من تلك الأبعـاد والأزمـان.
ثم كيف تنتظم هذه النجوم في هذا الشكل البديع الذي نـراه في هذا الكون، فيخيّل لنـا
أننـا نراهـا هـادئة مستقرة متراصة، وحقيقتهـا لا يعلمهـا أحد إلا خـالقهـا.
من
منهـا انتقل من أقصى الـشرق إلى الغرب ومن منهـا انتهى عمره فتبدد، ومن منهـا اصطدم
بغيره فتوالد عنهمـا نجوم أخرى وكواكب ومذنّبات وأعـاصير كونية لا نعلم عنهـا
شيئـاً. لهذا جـاء هذا القسم الإلهي ليدلنـا على صـدق المقـسوم بـه، كمـا يضعنـا
أمـام حقيقة أنـنـا بعلومنـا قاصرين عن أن نعرف كل شيء، ولهذا وجب علينـا التسليم
فيمـا لا تستطيع أن تسـتوعبه أبصـارنـا وعقولنـا لقول الله الذي يأتي في الآيـات
التـالية بأمـور غيبية عن الروح والجنة والنـار.
هذا القرآن جـاء تنـزيـل ممن
سبق علمه ورؤيته كل العلوم والأزمـان والأكوان، لمن هم قـاصـرين في علومهم ورؤيتهم،
ومحدودين بأزمـانهم وأبعـادهم وقدراتهم حتى يتيقنوا من هذا البيـان..
{فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون}